منذ خطّة «لازارد»، في عهد حكومة حسان دياب، هناك محاولات لإجراء تغيير جذري في السوق المالي، من خلال التمهيد لتأسيس مصارف جديدة يمكن ان تحلّ مكان المصارف القائمة. فهل مثل هذا المخطّط قابل للحياة؟ ومن يقف وراءه؟ في الموازاة، يحلو للبعض التلويح باستقدام مصارف أجنبية للعمل في السوق المحلي، فهل هذا الامر وارد ويمكن تنفيذه؟
من خلال تجربة لبنان مع المصارف الأجنبية، نلاحظ انّ البلد مرّ بتجربتين في هذا المجال. التجربة الاولى حصلت قبل العام 1975، عندما قَدمَت مصارف عالمية الى السوق اللبناني وعملت فيه بنشاط وديناميكية. ونجحت هذه المصارف في السيطرة على السوق المحلي. لكن طموحات المصارف الأجنبية تخطّت الحدود اللبنانية، إذ انّ بيروت كانت بمثابة منصّة للولوج الى السوق الاقليمي، وتحديداً أسواق دوَل البترو- دولار. وشكّل لبنان في تلك الحقبة جسر عبور الى أسواق الخليج، كما شكّل خزاناً مهمّاً للعملات الصعبة الناتجة من ثروات النفط الخليجية.
هذه التجربة انتهت عملياً مع بداية الحرب في العام 1975، حين انسحبت المصارف الاجنبية من السوق اللبناني. ولا شك في انّ خروج المصارف الأجنبية، وعلى رغم سلبياته، إلّا انّه ساهم في إعطاء فرصة ذهبية لكي تتمكّن المصارف اللبنانية من السيطرة على السوق المحلي. وهكذا نَمت هذه المصارف بسرعة قياسية غير مسبوقة.
بعد اتفاق الطائف، وعقب وصول الرئيس الشهيد رفيق الحريري الى السلطة، بدأت التجربة الثانية لتواجد المصارف العالمية في لبنان. وفي مطلع الألفية الثانية توافدت مصارف مرموقة الى بيروت. ولكن التجربة هذه المرّة كانت مختلفة بعض الشيء عن التجربة الاولى، ذلك انّ المصارف اللبنانية رسّخت وجودها اكثر، ولم يكن سهلاً ان تسيطر المصارف الاجنبية على السوق كما فعلت في التجربة الاولى. وما أعطى المصارف المحلية افضلية اضافية، انّها كانت منفتحة على شراء سندات الخزينة اللبنانية، بما منحها هامشاً استثنائياً في دفع فوائد مرتفعة لم تنجح المصارف الأجنبية في مجاراتها. ومع ذلك، نجحت المصارف الاجنبية في اقتناص حصّة في السوق، خصوصاً في ضوء النمو الاقتصادي الاستثنائي الذي جرى تسجيله بين 2007 و2010. إذ وصل النمو عام 2007 الى 8.4%، و8.6% عام 2008، و9% عام 2009، و7% عام 2010، قبل أن يتراجع الى 1.5% عام 2011، ثم 1.55% عام 2012، و2% عام 2013.
بالإضافة إلى عامل النمو، ورغم انّ بيروت فقدت دورها كمنّصة إقليمية لدول الخليج، الّا انّها اصبحت ممراً سريعاً الى السوق السوري، الذي كان في مرحلة انفتاح ونمو بين العام 2000 حتى 2010. وهذا الامر ساهم في صمود المصارف الاجنبية مرحلياً، قبل ان تستشعر المخاطر الناجمة عن ثلاث حقائق:
اولاً- انحراف الوضع السوري نحو الحرب الداخلية.
ثانياً- بدء ظهور ازمة تراجع في الاقتصاد اللبناني، وأزمة ثقة أدّت الى خفض تصنيفة الائتماني الى B- الامر الذي صار يحتّم على المصارف الاجنبية حجز مؤونات اضافية لتغطية مخاطر التصنيف، بما يعني خفض إمكانات تحقيق ارباح.
ثالثاً- توقعات متشائمة في شأن التطورات التي قد يشهدها الوضع اللبناني ربطاً بالوضع السوري، وبنمو سيطرة «حزب الله» على المشهد الداخلي.
هكذا انتهت التجربة الثانية لتواجد المصارف العالمية في لبنان. ولم يبق في السوق المحلي سوى 5 مؤسسات مصرفية غير لبنانية، واحدة منها فقط ذات هوية عربية، ولكن حجمها يسمح بتصنيفها ضمن المصارف الكبيرة اقليمياً، في حين انّ المصارف الاربعة الاخرى، اكثر تواضعاً في حجمها وانتشارها. والمفارقة انّ هذه المصارف، لم تنج من أزمة الانهيار، وهي تعاني ما تعانيه المصارف اللبنانية، لجهة شح السيولة، بسبب ما فقدته من اموال احتياطية في مصرف لبنان، وبسبب القروض التي منحتها في السوق المحلي وجرت إعادتها باللولار او بالليرة.
من خلال هاتين التجربتين، يمكن التأكيد انّ عودة المصارف الاجنبية الى لبنان غير متاحة حالياً، ومن يستخدم هذه الورقة، يكذب او لا يعرف. لكن ذلك لا ينفي امكانية وجود مخطّطات مشبوهة تهدف الى السيطرة على السوق المالي من خلال تصفية القطاع المصرفي برمته، والتعاون مع دول عربية تبحث عن دور لها في لبنان، وقد تستخدم السوق المالي، لهذه الغاية. ومن البديهي، انّ مخططاً من هذا النوع، سيوزّع الرخص المصرفية على أساس محاصصة طائفية ضمن التوازنات السياسية القائمة حالياً. وسيؤدي ذلك حتماً الى حصول الفريق الأقوى على حصّة الاسد.
طبعاً، ليس من السهل النجاح في تنفيذ مخطط من هذا النوع، لكنه مخطط موجود، على الاقل في عقول البعض، وهذا ما يفسّر ربما لماذا تستند كل خطط الإنقاذ الى روحية الإلغاء بدلاً من التعافي.